المنهج في قراءة كتب التفسير لفضيلة الشيخ ابن عثيمين
كاتب الموضوع
رسالة
طريق النجاة مؤسس المنتدى
جنسيتي : عدد المساهمات : 363
موضوع: المنهج في قراءة كتب التفسير لفضيلة الشيخ ابن عثيمين الثلاثاء أغسطس 04, 2015 6:46 pm
--------------------------------------------------------------- إذا قال قائل: إلى أي شيء نرجع في التفسير فكتب التفسير كثيرة، وتناولها للقرآن على وجوه متنوعة، فإلى أيها نرجع ؟ --------------------------------------------------------------- نقول: أهم شيء نلاحظه في هذا، ما يتعلق بالعقيدة، وعلى هذا فنحذر من كل من ينحى منحى أهل التعطيل في صفات الله وأسمائه، فإذا عُرِف أن صاحب هذا التفسير من هؤلاء القوم فلنحذره حتى وإن كان فيه فوائد من الناحية اللغوية أو الفقهية، لكن يجب أن نحذره في مقام العقيدة، لئلا نزلّ. ولنضرب لهذا مثلا، الكشاف للزمخشري: لا شك أنه تفسير جيد في تحرير المعنى، وفيما يرمي إلى البلاغة، وأن كل من جاء بعده ممن ينهجون هذا المنهج، كلهم عيال عليه، حتى إنك لترى العبارة: عبارة الزمخشري بنصها وفصها في هذه التفاسير، لكنه في مسألة العقيدة سيء يجب الحذر منه، حتى قال بعضهم: إنه لا يطلع على ما في كتابه هذا من الاعتزال إلا بالمناقيش- يعني أنه خفي- كما أن الشوكة لا تخرج إلا بمنقاش، كذلك لا يمكن أن يخرج الإنسان اعتزاليات صاحب الكشاف إلا بالمناقيش ، وضرب لهذا مثلا: قال: إنه قال: - عفا الله عنا وعنه- في قوله تعالى: ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)آل عمران:185 قال: أي فوز أعظم من أن يزحزح الإنسان عن النار ويدخل الجنة، هذا الكلام لا أحد يشعر بأن فيه انحرافا، لكن إذا علمنا أن الرجل ذكي، وأنه يغلف المعاني بما يخفى على كثير من الناس ، فهو يريد بهذا أن ينكر الرؤية أعني رؤية الرب ؛ لأن رؤية الرب أعظم فوزاً من أن يدخل الإنسان الجنة ويزحزح عن النار، لكن الرجل ذكي، فمثل هذه العبارة يقرؤها الإنسان على أنها عبارة سليمة ليس فيها شيء، ولكن ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب . الحاصل أن الإنسان لو رجع إلى تفسير الزمخشري وأعجبه بلاغته وحسن أسلوبه لكنه صغير ليس عنده علم، نقول: لا بد أن ينبه على هذا، ويقال: خذ ما يتعلق بالبلاغة، وما يتعلق بالمعنى، لكن احذر مسألة العقيدة . إذاً : على أي تفسير نعتمد؟ نقول: أولاً: إن التفاسير الأثرية، أي: التي تفسر القرآن بالآثار عن الصحابة ، وعن كبار التابعين، هي أولى ما يلتفت إليه وعلى رأسها تفسير ابن جرير، لكن في تفسير ابن جرير آفة، وهو أنه يطلق التفسير عن الصحابة والتابعين بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف ، وكأنه يريد أن يجمع ما روي، فإما أن المنية أدركته قبل تمحيصه، وإما أنه يريد أن يكل هذا إلى القارئ، ولهذا إذا مر عليك شيء مشكل من تفسير القرآن بالأثر في ابن جرير أو غيره، فارجع إلى السند ربما تجد فيه آفة توجب رد ما روي عن ابن عباس أو عن مجاهد أو غيرهما. ومن خير ما نرى من التفاسير، تفسير ابن كثير ، فهو تفسير أثري نظري ، لكنه أحيانا يتغاضى عن الكلام عن بعض الإسرائيليات أو بعض القصص، وهذه لا شك أنها آفة لكن كما تقدم: متى أنكر قلبك شيئا من هذا فارجع إلى الأسانيد أو إلى أصل هذا المتن المروي، فقد يكون من الأشياء التي رخص فيها عن بني إسرائيل، لقوله : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". لكنه تفسير جيد. ثانيا: ومن التفاسير التي تعنى بتفسير القرآن بالقرآن تفسير الشيخ الشنقيطي حسب الاسم والعنوان ؛ لأنه معنون بأضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن . ثالثا: أما تفاسير المتأخرين بعضها تجد الكلام الطويل العريض على الآية، ثم إذا أردت أن تحصل منه شيئا لا تجد شيئا، فهو قش هش فائدته قليلة، اللهم إلا النادر، وعلى كل حال طالب العلم يستطيع أن يميز بين الغث والسمين. لكن هنا مسألة أحب أن أنبه عليها طالب العلم وهي: أني أريد منك أن تحاول فهم القرآن بنفسك، اقرأ الآية، تدبر معناها، ثم سيكون لديك شيء من المعنى، ثم بعد ذلك ارجع إلى أقوال المفسرين، لأن تعويد الإنسان نفسه على أخذ المعاني أو بعبارة ثانية على تفسير القرآن بنفسه يكسبه فهما كثيرا: لأنه امتثال لأمر الله تعالى في قوله: (ليدبروا آياته) ص:29، لكن لا تجزم إذا كان الأمر ليس بواضح إلا بعد مراجعة كتب التفاسير. رابعا: ومن المفسرين من ينحى منحى آخر، فيذكر المسائل الفقهية مثل القرطبي ، فإنه ينحى هذا المنحى ، تجد في تفسيره مسائل كثيرة من مسائل الفقه، وهذا ولا شك أنه طيب ويفيد طالب العلم. والمسألة الثانية في التفسير قال العلماء: يرجع أولا إلى تفسير القرآن بالقرآن، وهذا كثير، ثم إلى تفسيره بالسنة ، ثم إلى تفسيره بأقوال فقهاء الصحابة، ولا سيما من لهم عناية بتفسير القرآن، كابن عباس وابن مسعود ، ثم إلى كبار التابعين الذين تلقوا التفسيرعن الصحابة كمجاهد. فمثلاً إذا قال لك قائل: ما هي القوة المذكورة في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)الأنفال:60؟ ننظر في القرآن لا نجد تفسيرا لها، لكن نجد تفسيرها في السنة ، قال النبي : "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". إذا نفسر القوة بأنها الرمي، أي: تعلم الرمي، والرمي في كل زمان ومكان بحسبه، وقد كان الناس في السابق يرمون بالنبال وما أشبهها، ثم صاروا يرمون بالبارود ، أي: بالبنادق والرصاص، ثم صاروا الآن يرمون بالصواريخ قريبة المدى وبعيدة المدى، والرمي الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام، يشمل أي رمي كان، حسب أساليب الحرب التي في وقته. كذلك لو قال لك قائل: ما هو يوم الدين؟ ننظر، فالقرآن فسره، قال الله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين) الإنفطار:17،18 إذا يوم الدين هو اليوم الذي لا ينفع فيه إلا العمل ولا يملك فيه أحد لأحد منفعة، وأمثال هذا كثير. ولا يعني هذا أننا إذا رأينا الآية تحتمل معان أخرى غير ما ذُكِر أن نقتصر على ما ذُكِر؛ لأن كلام الله تعالى أوسع من أن يحيط به البشر، قد يفهمون معنى ونحن نفهم معنى آخر للآية، لكن إن كان يضاد ما فهمه الصحابة والتابعون، فإننا لا نقبله، أما إذا كان لا يضاده فلا مانع من أن نقول: الآية واسعة، تشمل هذا وهذا: لأن كلام الله واسع. فالحاصل: أننا عند الاختلاف نرجع إلى تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسيره بالسنة، ثم بأقوال فقهاء الصحابة، ثم بأقوال كبار التابعين، لكن إذا فهم الإنسان المعنى فلا حاجة للرجوع للتفسير. فإذا قال قائل: كيف أتوضأ؟ قلنا: هذا واضح في قوله تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) المائدة:6 ولا حاجة للتفسير. تنبيه: الاقتصار في تفسير القرآن على اللغة دون النظر إلى القرآن والسنة وأقوال الصحابة لا شك أن هذا المنهج غلط، فالرجوع إلى اللغة مطلقا غلط، فلو رجعنا إلى اللغة فقط في تفسير قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة) البقرة:43 لكان المعنى: وأقيموا الدعاء، وهذا غلط. القاعدة الثالثة: قد تكون الآية محتملة لوجهين فأكثر، فماذا تصنع إذا احتملت الوجهين فأكثر؟ نقول: أي هذه المعاني أظهر؟ فإذا كان أحد هذه المعاني أظهر وجب حملها على هذا الأظهر، لا سيما إذا كان الأخفى يعادل الأظهر، فإننا نأخذ بالظاهر. فمثلا قول الله : (بل يداه مبسوطتان)المائدة:64 تحتمل الآية معنيين. أحدهما أظهر من الثاني، المعنى الأول: أن المراد باليدين هما اليدان الحقيقيتان اللتان يأخذ الله بهما ويقبض. المعنى الثاني: القوة، لكن هذا المعنى الثاني بالنسبة للأول ضعيف جدا، فنقول: لا يمكن أن نحمله على المعنى الثاني؛ لأن المعنى الأول أظهر، والله لا يمكن أن يخاطب عباده بما هو أظهر، ويريد الأخفى، هذا مستحيل؛ لأن الله قاليريد الله ليبين لكم)النساء: 64، ويقول: ( يبين الله لكم أن تضلوا) النساء:176 فلا يمكن أن نحمل كلام الله على المعنى الأخفى مع وجود الأظهر، بل يتعين أن نأخذ بالأظهر. أما إذا كان المعنيان محتملين، يعني أن المعنى صالح لهذا وهذا فحينئذ إن كان المعنيان لا يتعارضان وجب حمل الآية على المعنيين جميعا، ولا مانع، وإن كانا يتنافيان وجب أن نطلب المرجح من الخارج: لأن اللفظ الذي بين أيدينا ليس فيه ترجيح، فنحتاج إلى مرجح من الخارج. مثال الأول: قول الله : (والليل إذا عسعس. والصّبح إذا تنفس) التكوير: 17، 18. الليل إذا عسعس: قال بعضهم: معناها أدبر، وقال بعضهم: معناها أقبل، وكلاهما صالح في السياق وفي اللغة العربية، فماذا نقول في مثل هذا؟ نقول: تحمل الآية على المعنيين جميعا ولا مانع؛ لأن كلام الله تعالى واسع، ومثاله أيضا قوله تعالى: (والبحر المسجور) الطور:6، هل معنى: " البحر المسجور" الذي سيسجر ويكون ناراً يوم القيامة أو المسجور المملوء، أو المسجور الممنوع عن الفيضان على الأرض فيه أقوال، هل كل قول ينافي الآخر؟ الجواب: لا، هل المسجور ظاهر في أحدها دون الآخر؟ الجواب: لا، بل اللفظ صالح للجميع، حينئذ نقول: المسجور، الذي سيسجر كما قال الله تعالى: (وإذا البحار سجرت)التكوير:6 والمسجور المملوء كما تقول العرب: دلو مسجورة، أي: مملوءة، والمسجور الممنوع كما يقال: سجرت الدابة بالقيد، أي: منعتها من الشرود، فالآية صالحة للجميع، أي تحمل على الجميع، ولا مانع لأن كلام الله كما تقدم واسع. مثال أخر: قول الله : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة: 228، يرى بعض العلماء أن المراد بالقروء الأطهار، ويرى آخرون أن المراد بالقروء الحيض، هذان المعنيان لا يمكن أن تحمل الآية عليهما جميعا؛ لأنهما متنافيان، إذا لا بد من مرجح خارجي، المرجح الخارجي إما من السنة أو من كلام العرب أو من غير ذلك، المهم لا بد من مرجح، إذا رجعنا إلى المرجح الخارجي، وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسل أطلق الأقراء على الحيض، فقال للمستحاضة: "اجلسي قدر ما تحبسك أقراؤك أو كلمة نحوها. فهنا نقول: المراد بالقروء الحيض ، يتعين ذلك لدلالة السنة على هذا، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم، أنه متى احتملت الآية معنيين فأكثر ولا مرجح لأحدهما ولا منافاة بينهما، فإنها تحمل عليهما جميعا. القاعدة الرابعة في التفسير: هل يجو للإنسان أن يفسر القرآن برأيه أو لا يجوز؟ الجواب: لا يجوز، ومعنى تفسيره بالرأي أن تحمل على ما تعتقد، فتجعل القرآن تابعا لرأيك وعقيدتك، وهذا يقع كثيراً من أهل الأهواء؛ يحملون القرآن على ما يعتقدون، فيكونون قد قالوا في القرآن برأيهم، وهذه آفة قلّ من يسلم منها، حتى الفقهاء ، تجدهم إذا مر بهم النص وهو على خلاف ما يرونه تجدهم يحاولون أن يصرفوه إلى ما يرون، وهذا لا يجوز، هذا يعني أن الإنسان جعل نفسه مشرعاً مع الله ، فالله يريد كذا وهو يحمله على غيره، وهذا من أعظم المحرمات، أعني: تحريف الكلام عن مواضعه، نعم لو فرض أنك حملته على غير ظاهره لدليل من القرآن والسنة فلا بأس، لكن لمجرد أن تعتقد خلاف ما يدل عليه الظاهر فهذا لا يجوز أبدا، ولا يحل، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، ومن اتخاذ الإنسان نفسه مشرعاً مع الله، وهذا نجده كثيراً عند الفقهاء في بعض المسائل، تجد أن الإنسان يحرف الدليل تحريفاً ظاهراً من أجل أنه يعتقد خلاف ما يدل عليه، ولهذا أمثلة. مثلا يرى الفقهاء أن الرجل لا يجوز أن يتطهر بفضل طهور المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بفضل طهور الرجل، ثم يستدلون بقول النبي : "لا يغتسل الرجل بفضل المرأة، ولا المرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعا"، ماذا نقول الآن؟ نقول هذا تناقض، كيف يستدل بهذا الحديث على منع تطهر الرجل بفضل طهور المرأة، وجواز تطهر المرأة بفضل طهور الرجل مع أن الحديث واحد؟ والذي يحمل على هذا هو اعتقادهم أن هذا هو الصواب. وكذلك حديث عائشة المشهور: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" هذا الحديث حمله بعض الفقهاء على أن المراد به النذر، وقال: إن المرء إذا مات وعليه صيام فرض رمضان أو كفارة لا يصام عنه، والذي حملهم على صرف الحديث من عمومه، اعتقادهم أن الفرائض يكلف بها الإنسان بنفسه، ولا أحد يصوم عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد. فانظر كيف حملوا الحديث على مسائل نادرة الوقوع، وصرفوه عن مسائل كثيرة الوقوع، أيهما أكثر أن يموت الإنسان عن صيام رمضان أو عن صيام نذر؟ الأول بلا شك، وهذا خطأ في الاستدلال، وقد تقدم في اقتضاء الصراط المستقيم أن شيخ الإسلام ابن تيمية نبه على هذا، وأنه لا يجوز أن تحمل النصوص على المسائل النادرة، وتترك المسائل الكثيرة الوقوع. ومما يتعلق بالقرآن وتفسيره مراعاة المعاني عند قراءة القرآن، فإن بعض الناس يقف على رأس آية موقفا لا يتلاءم مع المعنى، وهذه مسألة تحتاج إلى فهم الإنسان، لا إلى التقيد بالرموز، أعني: علامات الوقف الموجودة في المصحف؛ لأن بعض هذه الرموز الوقف عليها خطأ واضح، وأضرب لهذا مثلا: قال الله تعالى: ( أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون) الأنبياء:21. بعض الناس يصل، فيقول أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون)، وهذا يفسد به المعنى، لأن جملة ( هم ينشرون) مستقلة عن التي قبلها، ومعناها: أم لهم آلهة من الأرض أهم ينشرون، يعني أهذه الآية تنشر وتحيي الأموات؟ فتكون الجملة هنا مستأنفة، وهي استفهامية أيضا حذف منها حرف الاستفهام لإبطال دعوى هؤلاء لآلهتهم التي يعبدونها. كذلك أيضا بعض الناس يقرأ : ( يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) النساء: 43 فيقف على قوله: ( لا تقربوا الصلاة) وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا قرأ: ( يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة)، ثم استأنف فسد المعنى تماماً، أما قول الله تعالى: (فويل للمصلين*الذين هم عن صلاتهم ساهون) الماعون: 4،5 فلا بأس أن تقف على قوله (فويل للمصلين) الماعون:4 لأنها رأس آية والله تعالى أعلم بكتابه، فإذا كانت رأس آية فقف ولا مانع وإن تعلق ما بعدها بما قبلها، ثم قد يكون في الوقف فائدة. فمثلا: إذا قرأت (فويل للمصلين) الماعون:4 ثم وقفت، فالذي يسمع القراءة ينتبه ، تجده متشوقا لما يأتي بعدها، فإذا قرأت ( الذين هم عن صلاتهم ساهون) برد قلبه وانشرح صدره. تنبيه: أرى كثيرا من إخواننا القراء الآن إذا انقطع بهم النفس أعادوا ما قبل الأخير بكلمة أو كلمتين مع أن ما يعيدونه له تعلق بما قبله أي: بما لم يعيدوا، وهذا يقتضي إما التسلسل بأن يبدأ الإنسان من أول الآية ثم ينقطع نفسه في هذا المكان، والذي نرى أن انقطاع النفس إذا كان لعذر يبدأ من حيث انقطع، اللهم إلا إذا انقطع في كلمة بين حروفها فهنا لا بأس أن يعيد الكلمة لأن بعض الناس يقرأ أربع آيات أو خمس آيا فتصير الخمس عشر آيات لأنه يكرر وهذا ليس بصحيح، ولا إخال أن الصحابة يفعلون هذا، ولذلك لما التزم بعض القراء هذا رأينا من يقرأ بالوصل في قوله تعالى: (سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون) المائدة:41 وهذا غلط لأن الصلة تخل بالمعنى، لكن الصواب أن يقف على قوله تعالى: (سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك) المائدة:41 ثم يقرأ (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) المائدة:41 كذلك أيضا من جهة التحزيب للقرآن، شيخ الإسلام انتقد التحزيب الموجود في بعض الأحيان، تجد أن الحزب يقف على آية ما بعدها متعلق بها تعلق الروح بالجسد، لكن مكتوب مثلا حزب، ثلاثة أرباع حزب، ثمن، وما أشبه ذلك، يقول شيخ الإسلام : ما هكذا حزبه الصحابة، الصحابة يحزبونه ولكنهم يراعون المعنى، فإذا كان باق على تمام المعنى سطر أو سطران أخروا التحزيب، وهذا صحيح، في بعض الأحزاب تتعجب كيف يكون هذ آخر الحزب وما بعده متعلق به تعلقا واضحا؟ هذا ما يحضرني الآن من الكلام على شيء من قواعد التفسير، وقد ألفنا كتابا صغيرا في قواعد التفسير يدرس في المعاهد العلمية ، فمن شاء فليرجع إليه. وهنا مسألة: وهي أني أريد أن أنبه طالب العلم أنه يجب عليه أن يعتني بالتفسير، فكثير من طلاب العلم يعتني بالعقيدة وهذا طيب، وكثير منهم يعتني بالفقه وهذا طيب، وكثير منهم يعتن بالحديث وهذا طيب أيضا، ولكن فيما أرى والعلم عند الله، قليل من يعتني بالتفسير، وهذا من العجائب، فالقرآن الكريم مملوء من كل خير، أحيانا تحاول أن تطلع على كلام الفقهاء في حكم مسألة من المسائل وتحاول فلا تجدها، وإذا هي موجودة في القرآن ، والله يقول: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)النحل::89، ولهذا ؛ القرآن فيه كنوز عظيمة، حتى إن الإنسان يقف أحيانا يتأمل ما وجه ارتباط هذا بهذا، أو ما وجه كون هذه الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو ما شابه ذلك، فعليك بالتفسير، لكن لو قرأ طالب العلم في التفسير دون أن يسبق له شيء من علوم الآلة كعلوم اللغة بفروعها قد لا يدرك شيئا. لو قال قائل: بعض المفسرين المعاصرين يحاول أن يربط بين آيات القرآن وبين الاكتشافات العصرية، فما حكم هذا؟ الجواب: نعم بعض المعاصرين يحاول أن يربط الاكتشافات العصرية بالقرآن، لكن بعضهم يتجاوز ويفرط في هذا، ويفسر القرآن بما يطابق الحاضر، وهو بعيد عنه، لكن إذا كان المعنى قريب فلا بأس، وقد رأيت بعض الناس لما قيل: إنهم وصلوا إلى القمر، صار يدندن على تفسير قول الله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) الرحمن:33، وقال : إن هؤلاء نفذوا إلى أقطار السماوات، وإن المراد بالسلطان هو العلم، وهذا حرام، فلا يجوز تفسير الآية بهذا المعنى، حرام لا إشكال فيه؛ لأن الآية ظاهرة جدا في أن هذا من باب التحدي ، وأنهم لن يستطيعوا النفوذ والله يقول: ( من أقطار السماوات والأرض)، هل أحد نفذ من أقطار السماوات؟ يعني لو قلنا: نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية، لم ينفذوا من أقطار السماوات، والآية واضحة بأنه يوم القيامة، قال الله تعالى: ( كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام* فبأي ءالآء ربكما تكذبان* يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن*فبأي ءالآء ربكما تكذبان*سنفرغ لكم أيها الثقلان*فبأي ءالآء ربكما تكذبان*يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان*فبأي ءالآء ربكما تكذبان*يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) ثم من قال: إن السلطان هو العلم، في هذه الآية؟ صحيح أن السلطان يأتي بمعنى العلم، مثل قوله تعلى: ( إن عندكم من سلطان بهذا) يونس: 68 لكن في هذه الآية المراد بالسلطان القدرة؛ لأنه قال: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) ولا سلطان لكم، فالسلطان يأتي بمعان متعددة، في كل موضع بحسبه. فهؤلاء الذين يفسرون القرآن بما حدث من اكتشافات، بعضهم يفرط في هذا فيتجاوز الحد، ولم يعلم أنه ربما يأتي يوم من الأيام تكون النظرية التي حمل عليه القرآن نظرية خاطئة وحينئذ يخطئ مدلول القرآن. لو قال قائل: ما حكم كتابة بعض الآيات على الأسواق التجارية والمدارس والمنازل وغير ذلك؟ الجواب: بعض الناس يستعمل الآيات أو الاستدلال بالآيات في معان غير مقصودة ، مثلا، كثيراً ما نرى على المنازل أو على الأسواق التجارية أو حتى على الإدارات، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة: 105 هذا لا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يرى هذا العمل، الله يراه، والمؤمنون الموجودون يرونه، لكن الرسول لا يراه، فكيف نكذب ونقول فسيرى عملكم ورسوله والمؤمنون، كذلك أيضاً ربما تطبق الآية على غير المراد، ولأن تحويل الآية إلى المعنى الذي اختاره هذا الرجل حرام إذا لم تدل عليه. لو قال قائل: بعض المفسرين يتكلف في إيجاد المناسبة بين الآيات وبين السور فما رأيكم في هذا؟ الجواب: المناسبة بين الآيات حقيقة أنها من علم التفسير، وينبغي للإنسان إذا أمكن أن يعرف المناسبة بين الآية والآيات التي قبلها، لكن المبالغة في هذا والتكلف لا داعي له؛ لأن حسبنا أن نقول: الله أعلم بمراده، وإذا قال الإنسان الله أعلم فيما لا يعلم فهذا خير، ولهذا بعض الآيات لا يمكن أن تعرف المناسبة بينها، مثل قوله تعالى: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) البقرة: 238 في سياق المعتدات، هذه لا تستطيع معرفة المناسبة، وهذا من الحكمة أن يقطع الله أطماع الخلق في أن يحيطوا بكلامه علما.
تفسير سورة المائدة المجلد الأول ص381 ـ395
__________________ " إذا أحدَثَ اللهُ لكَ علماً فأحدِث له عبادةً ولا يكُن همُك أن تحدِّث به ! " جامع بيان العلم (1/654)
منقول للإفادة
المنهج في قراءة كتب التفسير لفضيلة الشيخ ابن عثيمين