الوابل الصيب مشرف قسم الغرفة الصوتية
جنسيتي : عدد المساهمات : 53 الموقع : لا يوجد
| موضوع: ملخص كتاب معالم في الطريق تأليف سيد قطب الأحد يوليو 28, 2013 5:19 am | |
|
معالم في الطريق سيد قطب
مَـعَالِم في الطَـريق مقدمة إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال .. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية .. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من "القيم" لا يسمح له بالقيادة . لقد أدَّت النهضة العلمية دورها .. هذا هو الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عثر الميلادي ، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .. ولم تعد تملك رصيدًا جديدًا . كذلك أدَّت " الوطنية " و " القومية " التي برزت في تلك الفترة ، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه الفرون . . ولم تعد تملك هي الأخرى رصيدًا جديدًا . ثم فشلت الأنظمة الفردية والأنظمة الجماعية في نهاية المطاف . ولقد جاء دور " الإسلام " ودور " الأمة " في أشد الساعات حرجًا وحيرة واضطرابًا .. جاء دور الإسلام الذي لا يتنكَّر للإبداع المادي في الأرض ، لأنه يعدُّه من وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد الله إليه بالخلافة في الأرض ، ويعتبره - تحت شروط خاصة - عبادة لله ، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني . الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في مجتمع ، أي أن يتمثل في أمة .. فالبشرية لا تستمع - وبخاصة في هذا الزمان - إلى عقيدة مجردة. فـ" الأمة المسلمة " جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي . . . وهذه الأمة - بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر- الأرض جميعًا . لابد من " بعث " لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات ، وركام الأوضاع ، وركام الأنظمة ، التي لا صلة لها بالإسلام ، ولا بالمنهج الإسلامي . . وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم الإسلامي " إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوبًا منها - أن تقدم للبشرية تفوقًا خارقًا في الإبداع المادي ، يحنى لها الرقاب ، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية . . فالعبقرية الأوروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقًا واسعًا. وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادي عليها ! لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية - غير الإبداع المادي - ولن يكون هذا المؤهل سوى " العقيدة " و " المنهج " الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنجاج العبقرية المادية . ومن خصائص هذه الأمة هي تخليص البشر من أي مظهر ينافي كل خصيصة من خصائص الجاهلية التي تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وأولها.. الحاكمية . . إنها تسند الحاكمية إلى البشر ، فتجعل بعضهم لبعض أربابا في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأنظمة والأوضاع ، بمعزل عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله وما مهانة " الإنسان " عامة في الأنظمة الجماعية ، وما ظلم " الأفراد " والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم " الرأسمالية " إلا أثرًا من آثار الاعتداء على سلطان الله
كيف تبدأ عملية البعث الإسلامي ؟ لابد من طليعة تعزم هذه العزمة تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا أين تلتقي مع الناس وأين تفترق ؟ ما خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها ؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها ؟ ثم تعرف من أين تتلقى – في هذا كله – وكيف تتلقى ؟
جيل قرآني فريد لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان . . كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى . . على كتاب الله وحده ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التشوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه. إن القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن بُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن . ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . لا بد لا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية . . في خاصة نفوسنا . . ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية . . غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .
طبيعة المنهج القرآني ظل القران المكي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً كاملة، يحدَثه فيها عن قضية واحدة. قضية العقيدة.. ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة. كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضاً، كما يبين له: كيف يتعامل العباد مع العباد؟ ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ولم تكن هذه هي ايسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى (إله) ومعنى: (لا إله إلا الله).كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا لقد بُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين،واخصب بلاد العرب وأغناها ليست في يد العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء عرب من قبل الروم، وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست في أيدي العرب إلا الحجاز تهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وربما قيل انه في كان استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم-وهو الصادق الأمين الذي حكَمه أشراف قريش من قبل في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة، والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. انه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة.. الرومان في الشمال والفرس في الجنوب.. وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل أرجاء الجزيرة. وربما قيل:انه لو دعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة، بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم- كان خليقاً- بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة، وبعد أن يولَوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه-أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى! ولكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله- صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بـ (لا اله إلا الله) ، وان يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء ! لماذا ؟ أن الله-سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه. إنما هو-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني او طاغوت فارسي، إلى يد طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترفع كلمة (لا اله إلا الله). إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله إلا أن ترتفع راية(لا اله إلا الله)-لا اله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا الله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على احد، لان السلطان كله لله، ولان( الجنسية) التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله. وهذا هو الطريق.. وبعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا ًللثروة والعدالة. قلة قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيرة ضائعة من المال والمجد جميعاً! وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يرفعها راية اجتماعية، وان يثيرها حرباً على طبقة الأشراف، وان يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء! وربما قيل: انه لو دعا يومها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه، والقلة القليلة مع هذه الموروثات ، بدلا من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا اله إلا الله) التي لم يرتفع إلى افقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس! وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها، ان يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى! لكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه.. لقد كان الله-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع، ومن تكافل الجميع، ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه سواء انه ينفذ نظاماً شرعه الله، ويرجوا على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي تقوم على غير(لا اله إلا الله). وبُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية. كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر(زهير بن أبي سلمى): و من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدَّم، ومن لا يظلم الناس يُظلمِ وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية، ومن مفاخره وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع- شأنه شأن كل مجتمع جاهلي قديم او حديثز وربما قيل: انه كان قي استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس. وربما قيل: انه-صلى الله عليه وسلم- كان واجداً وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس. وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير. وربما قال قائل: انه لو صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك لاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة، تتطهر أخلاقها، وتزكوا أرواحها، فتصبح اقرب إلى قبول العقيدة وحملها، بدلاً من أن تثير دعوة (لا اله إلا الله) المعارضة القوية منذ أول الطريق. ولكن الله- سبحانه- كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق! لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب(لا اله إلا الله).. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.. تطهرت الأرض من(الرومان والفرس).. لا ليتقرر فيها سلطان(العرب). ولكن ليتقرر فيها سلطان(الله).. لقد تطهرت من سلطان(الطاغوت) كله.. رومانياً، وفارسياً، وعربياً، على السواء. وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام(النظام الإسلامي)، يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية (الإسلام). لا يقرن إليها اسماً أخر، ويكتب عليها : (لا اله إلا الله)! وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لان الرقابة قامت هناك في الضمائر، ولان الطمع في رضا الله وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات. وارتفعت البشرية في نظامها، وفي اخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام. جانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم. انه ليس(نظرية) تتعامل مع(الفروض) !.. انه(منهج)، يتعامل مع (الواقع) ! المسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! أن هذه ليست طبيعة هذا الدين!.. انه اشد واقعية من هذا واكثر جدية!.. انه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولاً.. الذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وان يصوغ قوالب نظام، وان يصوغ تشريعات للحياة.. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلاً تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة.. كما يريد له الله.. كذلك ينبغي ان يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية انهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة- حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو(أولا) إقرار عقيدة(لا اله إلا الله)- بعدلها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم.. كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة ؟ لم يعرضها في سورة جدل كلامي كالذي زاوله ما يسمى (علم التوحيد)! كان القرآن الكريم يخاطب فطرة (الإنسان) بما في وجوده هو وبما في الوجود حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام، إن العقيدة الإسلامية، ولو أنها عقيدة، إلا أنها تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي، ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية! إنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيّنّاه. ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالبت في العهد المكي على هذا النحو، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة. لم تكن مرحلة تلقِّي (النظرية) ودراستها! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً .. وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى. إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشرة عاماً، أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا (النظرية الإسلامية).
نَشأَة المُجتَمع المُسْلِم وَخَصَائِصُه القاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام- على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة: "شهادة أن لا اله إلا الله" أي أفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية.. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند انفسهم، بل لابد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه.. وهو رسول الله. وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: " شهادة أن محمد رسول الله". هكذا وجد الإسلام.. هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة -ولكنها شاملة- يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي، مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجهة لهذا المجتمع إن من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية، ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة الحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز (خصائص الإنسان) في هذا التجمع وتنميتها واعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج ان اصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وان صبت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد قصيرة، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بحد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
الجهاد في سبيل الله السمة الأهم في منهج هذا الدين: هي الواقعية الحركية فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان المغتصب ورده إلى الله ، وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] . { إن الحكم إلا لله . . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم . . } [ يوسف : 40 ] . إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو " الإنسان " . . نوع " الإنسان " . . ومجاله هو " الأرض " . . كل " الأرض " . إن الله - سبحانه - ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو " رب العالمين " . . وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر. أخرج الترمذي - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منٌ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على أخته فأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه - أي " عدي " - صليب من فضة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية . . { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله }. . قال : فقلت : أنهم لم يعبدوهم . فقال : ( بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم ) . إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته . . ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان . . ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم ، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم ، وأن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد ! وأن يتخذوا بعضهم بعضا أربابا من دون الله ! . . إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده . وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله . . إن مدلول " الدين " أشمل من مشمول " العقيدة " . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ، وهو في الإسلام يعتمد على ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة . . وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام . فطبيعة الإسلام ذاتها هي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين . وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان . أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي " - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي . { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق { نحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة . . حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية وعبودية العباد . . إنه لا يمكن ان يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
لا إله إلا الله منهج حياة { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21] إن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له ! فمن مظاهر تدخل الشيوعية مثلا في التصور الاعتقادي للناس إقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! . ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي " الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " . { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } . . . إلى قوله . . . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ النساء :60-65 ]
شَريعَةٌ كــونية الله الذي خلق هذا الوجود وخلق الإنسان ، والذي أخضع الإنسان لنواميسه التي أخضع لها الوجود الكوني . . هو - سبحانه - الذي سن للإنسان " شريعة " لتنظيم حياته الإرادية تنظيماً متناسقاً مع حياته الطبيعية . فالشريعة - على هذا الأساس - إن هي إلا قطاع من الناموس الإلهي العام الذي يحكم فطرة الإنسان ، وفطرة الوجود العام ، وينسقها كلها جملة واحدة . ولما كان البشر لا يملكون أن يدركوا جميع السنن الكونية ، ولا أن يحيطوا بأطراف الناموس العام - ولا حتى بهذا الذي يحكم فطرتهم ذاتها ويخضعهم له - رضوا أم أبوا - فإنهم - من ثم - لا يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظاماً يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس وحركة الكون ، ولا حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياتهم الظاهرة . إنما يملك هذا خالق الكون وخالق البشر ، ومدبر أمره وأمرهم ، وفق الناموس الواحد الذي أختاره وارتضاه . { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } . . [ المؤمنون : 71 ]. إذن فإن الهدف الظاهر من قيام شريعة الله في الأرض ليس مجرد العمل للآخرة . فالدنيا والآخرة معاً مرحلتان متكاملتان ، وشريعة الله هي التي تنسق بين المرحلتين في حياة هذا الإنسان . تنسق الحياة كلها مع الناموس الإلهي العام . إن الذي يملك السلطان في الكون هو وحده الذي ينبغي أن يكون له السلطان في حياة البشر { ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه - أن آتاه الله الملك - إذ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال : أنا أُحي وأُميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . . فبهت الذي كفر . والله لا يهدي القوم الظالمين } . . [ البقرة : 258 ] .
الإسلام هو الحضارة " المجتمع الإسلامي " هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام . . عقيدة وعبادة ، وشريعة ونظاماً ، وخلقاً وسلوكاً . . و " المجتمع الجاهلي " هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام ، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته ، وقيمه وموازينه ، ونظامه وشرائعه ، وخلقه وسلوكه . . ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم ناساً ممن يسمون أنفسهم " مسلمين " ، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع ، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام ! وليس المجتمع الإسلامي هو الذي يبتدع لنفسه إسلاماً من عند نفسه - غير ما قرره الله سبحانه ، وفصله رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويسميه مثلاً " الإسلام المتطور " ! و" المجتمع الجاهلي " : قد يتمثل في صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى ، ويفسر التاريخ تفسيراً مادياً جدلياً ، ويطبق ما يسميه " الاشتراكية العالمية " نظاماً . وقد يتمثل في مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى ، ولكن يجعل له ملكوت السماوات ، ويعزله عن ملكوت الأرض ، فلا يطبق شريعته في نظام الحياة وهو بذلك ينكر أو يعطل ألوهية الله في الأرض ، التي ينص عليها قوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } . . [ الزخرف : 84 ] . المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة واختيارهم الذاتي هو المجتمع المتحضر . . اما المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر خارج عن إرادتهم الإنسانية فهو المجتمع المتخلف . . أو بالمصطلح الإسلامي . . هو " المجتمع الجاهلي " ! حين تكون " الأسرة " هي قاعدة المجتمع . وتقوم هذه الأسرة على أساس " التخصص " بين الزوجين في العمل . وتكون رعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف الأسرة . . يكون هذا المجتمع متحضراً . . ذلك أن الأسرة على هذا النحو - في ظل المنهج الإسلامي - تكون هي البيئة التي تنشأ وتنمى فيها الأخلاق والقيم " الإنسانية " التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ، ممثلة في الجيل الناشى ، والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة الأسرة ، فأما حين تكون العلاقات الجنسية ( الحرة كما يسمونها ) والنسل ( غير الشرعي ) هي قاعدة المجتمع . . حين تقوم العلاقات بين الجنسين على أساس الهوى والنزوة والانفعال ، لا على أساس الواجب والتخصص الوظيفي في الأسرة . . حين تصبح وظيفة المرأة هي الزينة والغواية والفتنة . . وحين تتخلى المرأة عن وظيفتها الأساسية في رعاية الجيل الجديد ، وتؤثر هي - أو يؤثر لها المجتمع - أن تكون مضيفة في فندق أو سفينة او طائرة ! . . حين تنفق طاقتها في " الإنتاج المادي " و " صناعة الأدوات " ولا تنفقها في " صناعة الإنسانية " ! لأن الإنتاج المادي يومئذ أغلى وأعز وأكرم من " الإنتاج الإنساني " ، عندئذ يكون هنا هو " التخلف الحضاري " بالقياس الإنساني . . أو تكون هي " الجاهلية " بالمصطلح الإسلامي ! إن الإبداع المادي - وحده - لا يسمى في الإسلام حضارة . . فقد يكون وتكون معه الجاهلية . . وقد ذكر الله من هذا الإبداع المادي في معرض وضع الجاهلية نماذج : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون ؟ وتتخذون مصانع تخلدون ! وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله وأطيعون ، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين ، وجنات وعيون ، إني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . [ الشعراء : 128 - 135 ] . " الحضارة الإسلامية " . . إنها الحضارة التي توافرت فيها تلك القيم ، وليست هي كل تقدم صناعي أو اقتصادي أو علمي مع تخلف القيم عنها ) . وهذه القيم ليست " مثالية خيالية " إنما هي قيم واقعية عملية ، يمكن تحقيقها بالجهد البشري - في ظل المفهومات الإسلامية الصحيحة - ، يمكن تحقيقها في كل بيئة بغض النظر عن نوع الحياة السائدة فيها ، وعن تقدمها الصناعي والاقتصادي والعلمي . . فهي لا تعارض - بل تشجع بالمنطق والعقيدي ذاته - التقدم في كافة حقوق الخلافة ، ولكنها في الوقت ذاته لا تقف مكتوفة اليدين في البلاد التي لم تتقدم في هذه الحقول بعد . والحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي ، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة ، لأنها هي مقومات هذه الحضارة : ( العبودية لله وحده . والتجمع على آصرة العقيدة فيه . واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة . وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته . . وحرمة الأسرة . والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه . . وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة ) . .
التصور الإسلامي والثقافة النشاط الفني كله، وهو تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته واستجاباته، وعن صور الوجود والحياة في نفس إنسانية.. وهذه كلها يحكمها -بل ينشئها- في النفس المسلمة تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة! المسلم يملك أن يتلقى في العلوم البحتة، كالكيمياء، والطبيعة، والأحياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، وطرق الإدارة - من الناحية الفنية الإدارية البحتة - وطرق العمل الفنية، وطرق الحرب والقتال - من الجانب الفني- إلى آخر ما يشبه هذا النشاط.. يملك أن يتلقى في هذا كله عن المسلم وغير المسلم.. وان كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم، ان يسعى لتوفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلها، باعتبارها فروض كفاية، يجب أن يتخصص فيها أفراد منه. وإلا أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفايات، ولم يوفر لها الجو الذي تتكون فيه وتعيش وتعمل وتنتج.. ولكن الى ان يتحقق هذا فان للفرد المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية من المسلم وغير المسلم، وان ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم، وان يشغل فيها المسلم وغير المسلم.. لأنها من الأمور الداخلة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انتم اعلم بأمور دنياكم".. وهي لا تتعلق بتكوين تصور المسلم عن الحياة والكون والآنيان، وغاية وجوده، وحقيقة وظيفته، ونوع ارتباطاته بالوجود من حوله، بخالق الوجود كله، ولا تتعلق بالمبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع التي تنظم حياته أفراداً وجماعات، ولا تتعلق بالأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود مجتمعه وتؤلف ملامح هذا المجتمع.. ومن ثم فلا خطر فيها من زيغ عقيدته، او ارتداده إلى الجاهلية! فأما ما يتعلق بتفسير النشاط الإنساني كله أفراداً او مجتمعات، وهو التعلق بالنظرة إلى"نفس" الإنسان والى"حركة تاريخه" وما يختص بتفسير نشأة هذا الكون، ونشأة الحياة، ونشأة هذا الإنسان ذاته- من ناحية ما وراء الطبيعة - (وهو ما لا تتعلق به العلوم البحتة من كيمياء وطبيعة وفلك وطب.. الخ) فالشان فيه، شان الشرائع القانونية والمبادئ والأصول التي تنظم حياته ونشاطه، مرتبط بالعقيدة ارتباطاً مباشراً، فلا يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إلا عن مسلم، يثق في دينه وتقواه، ويعلم عنه انه يتلقى في هذا كله عن الله.. والمهم أن يرتبط هذا في حس المسلم بعقيدته، وان يعلم أن هذا مقتضى عبوديته لله وحده، او مقتضى شهادته: أن لا إله إلا الله، وان محمداً رسول الله. انه قد يَطَّلِع على كل آثار النشاط الجاهلي. ولكن لا لِيًكِّون منه تصوره ومعرفته في هذه الشؤون كلها، إنما ليعرف كيف تنحرف الجاهلية! وليعرف كيف يصحح ويقوَم هذه الانحرافات البشرية، بردها إلى أصولها الصحيحة في مقومات التصور الإسلامي، وحقائق العقيدة الإسلامية. إن حكاية أن "الثقافة تراث إنساني" لا وطن له ولا جنس ولا دين.. هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية - دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية "الميتافيزيقية" لنتائج هذه العلوم، ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعورية جميعاً. ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهود العالمية، التي يهمها تمييع الحواجز كلها - بما في ذلك، بل في أول ذلك حواجز العقيدة والتصور- لكي ينفذ اليهود إلى جسم العالم كله، وهو مسترخ مخدر، يزاول اليهود فيه نشاطهم الشيطاني جنسية المسلم | |
|